الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
فالتكذيب راجع إلى {نَشْهَدُ} باعتبار الخبر الضمني الذي دل عليه التأكيد وهو دعوى المواطأة في الشهادة أي والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوه قولهم: {نَشْهَدُ} من دعوى المواطأة وتوافق اللسان والقلب في هذه الشهادة، وقد يقال: الشهادة خبر خاص وهو ما وافق فيه اللسان القلب، وأما شهادة الزور فتجوز كإطلاق البيع على غير الصحيح فهم كاذبون في قولهم: {نَشْهَدُ} المتفرع على تسمية قولهم ذلك شهادة، وهو مراد من قال: أي لكاذبون في تسميتهم ذلك شهادة فلا تغفل.وعلى هذا لا يحتاج في تحقق كذبهم إلى ادعائهم المواطأة ضمنًا لأن اللفظ موضوع للمواطئ، وجوز أن يكون التكذيب راجعًا إلى قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} باعتبار لازم فائدة الخبر وهو عنى رجوعه إلى الخبر الضمني. وأن يكون راجعًا إليه باعتبار ما عندهم أي لكاذبون في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أنه كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه، قيل: وعلى هذا الكذب هو الشرعي اللاحق به الذم ألا ترى أن المجتهدين لا ينسبون إلى الكذب وإن نسبوا إلى الخطأ.وجوز العلامة الثاني أن يكون التكذيب راجعًا إلى حلف المنافقين، وزعموا أنهم لم يقولوا {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ حتى يَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِهِمْ وَلَئِنِ رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل} لما ذكر في صحيح البخاري عن زيد بن أرقم أنه قال: كنت في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكره لنبي الله صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدّثته فأرسل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن أبي.وأصحابه فخلفوا أنهم ما قالوا: فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله {إِذَا جَاءكَ المنافقون} فبعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فقال: «إن الله صدقك يا زيد».وجوز بعض الأفاضل أن يكون المعنى إن المنافقين شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذا الخبر، وأيًا مّا كان فلا يتم للنظام الاستدلال بالآية على أن صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان ذلك الاعتقاد خطأ وكذبه عدمها، وإظهار المنافقين في موقع الإضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم والكلام في {إِذَا} على نحو ما مر آنفًا.
وعن السدى أنهم اتخذوا ذلك جنة من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا، وهو كما ترى وكذا ما قبله.{فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي من أراد الدخول في دين الإسلام؛ أو من أراد فعل طاعة مطلقًا على أن الفعل متعد، والمفعول محذوف، أو أعرضوا عن الإسلام حقيقة على أن الفعل لازم، وأيًا مّا كان فالمراد على ما قيل: استمرارهم على ذلك، وحمل بعض الأجلة الأيمان على ما يعم ما حكى عنهم من الشهادة، ثم قال: واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا عن المؤاخدة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لابد أن يكون قبل المؤاخذة، وعن سببها أيضًا كما يفصح عنه الفاء في {فَصَدُّواْ} أي من أراد الإسلام أو الانفاق كما سيحكي عنهم، ولا ريب في أن هذا الصد متقدم على حلفهم، وقرئ أي قرأ الحسن {إيمانهم} بكسر الهمزة أي الذي أظهروه على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم، فمعنى قوله تعالى: {فَصَدُّواْ} فاستمروا على ما كانوا عليه من الصدود والاعراض عن سبيله تعالى انتهى، وفيه ما يعرف بالتأمل فتأمل {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من النفاق وما يتبعه، وقد مر الكلام في {سَاء} غير مرة.
وتعقب بأن الحالية تفيد أن السماع لقولهم لأنهم كالخشب المسندة وليس كذلك، و{خُشُبٌ} جمع خشبة كثمرة وثمر، والمراد به ما هو المعروف شبهوا في جلوسهم مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين فيها وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحًا خالية عن الفائدة لأن الخشب تكون مسندة إذا لم تكن في بناء أو دعامة بشيء آخر، وجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم، وفي مثلهم قال الشاعر: وقرأ البراء بن عازب. والنحويان. وابن كثير {خُشُبٌ} بإسكان الشين تخفيف خشب المضمون، ونظيره بدنة وبدن. وقيل: جمع خشباء. كحمر. وحمراء، وهي الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم لنفاقهم، وعن اليزيدي حمل قراءة الجمهور بالضم على ذلك، وتعقب بأن فعلاء لا يجمع على فعل بضمتين، ومنه يعلم ضعف القيل إذ الأصل توافق القراآت.وقرأ ابن عباس. وابن المسيب. وابن جبير {خُشُبٌ} بفتحتين كمدرة ومدر وهو اسم جنس على ما في البحر، ووصفه بالمؤنث كما في قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم وهلعهم فكانوا كما قال مقاتل: متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحًا بأي وجه كان طارت عقولهم وظنوا ذلك إيقاعًا بهم، وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله عز وجل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم؛ ومنه أخذ جرير قوله يخاطب الأخطل: وكذا المتنبي قوله: والوقف على {عَلَيْهِمْ} الواقع مفعولًا ثانيًا ليحسبون وهو وقف تام كما في الكواشي، وعليه كلام الواحدي، وقوله تعالى: {هُمُ العدو} استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المداجى الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوى ككثير من أبناء الزمان {فاحذرهم} لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترن بظاهرهم، وجوز الزمخشري كون {عَلَيْهِمْ} صلة {صَيْحَةٍ} و{هُمُ العدو} والمفعول الثاني ليحسبون كما لو طرح الضمير على معنى أنهم يحسبون الصيحة نفس العدو، وكان الظاهر عليه هو أو هي العدو لكنه أتى بضمير العقلاء المجموع لمراعاة معنى الخبر أعني العدو بناءًا على أنه يكون جمعًا ومفردًا وهو هنا جمع، وفيه أنه تخريج متكلف بعيد جدًا لا حاجة إليه وإن كان المعنى عليه لا يخلو عن بلاغة ولطف، ومع ذلك لا بساعد عليه ترتب {فاحذرهم} لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن {قاتلهم الله} أي لعنهم وطردهم فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها، وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز وجل وغاية نكاله جل وعلا في الدنيا والآخرة، والكلام دعاء وطلب من ذاته سبحانه أن يلعنهم ويطردهم من رحمته تعالى، وهو من أسلوب التجريد فلا يكون من إقامة الظاهر مقام الضمير لأنه يفوت به نضارة الكلام، أو تعليم للمؤمنين أن يدعو عليهم بذلك فهو على معنى قولوا: قاتلهم الله، وجوز أن لا يكونوا من الطلب في شيء بأن يكون المراد أن وقوع اللعن بهم مقرر لابد منه، وذكر بعضهم أن قاتله الله كلمة ذم وتوبيخ، وتستعملها العرب في موضع التعجب من غير قصد إلى لعن، والمشهور تعقيبها بالتعجب نحو قاتله الله ما أشعره، وكذا قوله سبحانه هنا: {قاتلهم الله}.{إِنّى يُؤْفَكُونَ} وهذا تعجيب من حالهم، أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال؟ فأني ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده، وجوز ابن عطية كونه ظرفًا لقاتلهم وليس هناك استفهام، وتعقبه أبو حيان بأن {إِنّى} لا تكون لمجرد الظرفية أصلًا، فالقول بذلك باطل.
|